للوهلة الأولى عند النظر إلى لوحات الفنانة والناقدة الفنيّة اللبنانية لور غريّب، نتصور أن هذه اللوحات تعود لطفل في السابعة من عمره. لور غريب طفلة الروح مسنة العمر ذات 84 خريفًا، تشترك مع ابنها البالغ منتصف عمره 45 سنة، في ثُنائية فنية جميلة في متحف سرسق ببيروت، يسردون من خلالها هواجسهم اليومية، أحلام اليقظة وحواراتهم الداخلية في شكل فني رمزي عصري.
أثناء تجولي في المتحف راودتني تساءولات كيف لسيدة بهذا العمر أن تحافظ على روح الطفولة بداخلها المنعكسة على لوحاتها ببساطة وعمق في الآن ذاته. من خلال لوحاتها الفنية التي تستحضر فيها جزء من حياتها الشخصية والكثير من التفاصيل والرسوم والخطوط الكاليغرافية، أستشف عنصر رفاهي غائب عن المشهد متعلق بالهواية الفنية، وهو احتراف التذوق الجمالي من منظور الخربشات اليومية والتأملات والتبصر بحياد في العناصر المادية المحيطة بنا بالبيئة ، من أصوات، أشخاص وكلمات قد نلتقطها فتُحدث في وعينا حالة من السكون والنشوة والعزلة ليس بهروبنا عن الواقع بل النظر إليه بشكل متفرّد موضوعي جمالي بعيدًا عن أية مؤثرات. كتب غاستون باشلار ” الأحلام تسبق التأمل. كل منظر طبيعي هو تجربة حُلمية، قبل أن يتشكل في مشهد تُدركه العين”. الانغماس في الملذات الصغيرة يمنحنا شعورًا مريحًا، إنه بالضبط عيش اللحظة الأنية. وهذا مايفعله أحد أعمدة جودة الحياة ،الفن، بنا سواءً محترفين أو متذوقين وهواة يدفعنا لعيش رفاهية من نوع آخر.
في كتابه How To Steal Like An Artist يؤكد الكاتب أوست كولين أنه من المهم على الفرد إمتلاك هواية ابداعية، وليس شرطًا أن تضع هدف مالي من هذه الهواية أو أن تحقق شهرة جراءها، بل أن تمارسها لوحدك كونها تخلق لك نوعًا من السعادة. وليس بمشكلة لو حاولت العكس..لكنه سيخلق ضغط بالنسبة لك كأن تصل لأهدافك المالية أو تثير إعجاب الآخرين وتحصد انتشارًا بين المتابعين مما قد يفقدك لذة الهواية من أجل المُتعة والترف فحسب.
المعرفة والتقدير للفن والأدب، لم يفلُتا من خضوعهما للتقسيم الاجتماعي والحالة الاجتماعية، فاستخدام الثقافة الرفيعة كمؤشر للموقع الاجتماعي للفرد، قد أبخس وغيّر من طريقة التعاطي مع الفن وتقديره. ففكرة الحساسية الفنية Artistic Sensitivity تم التلاعب بها لتكون إشارة أن الشخص يستمتع بأشكال أكثر تعقيد وعُمق في الثقافة عن غيره من العامة. هذا السياق يذكرنا بقصة “الأميرة وحبّة الفول” لـ هَانس أندرسن (1835م) والتي نشرت كادب للأطفال في مجموعة ليدي بيرد، تدور القصة حول أمير يبحث عن أميرة حقيقة، وحتى يتم التأكد من أنها حقيقية، تم امتحانها بوضع حبة فول تحت طبقات أفرش عديدة من السرير، وعندما سألوها صباح اليوم التالي كيف كانت ليلتها هانئة، أجابت” بالكاد لم أغمض عيني، بسبب شيء ما قاسٍ بالسرير أجهله!. يشير أندرسن أنه “لا أحد ..سِوى أميرة حقيقيّة تملك هذه الحساسية والرقة المفرطة “. لا حاجة للقول عند إعادة سرد القصة الخيالية بعالمنا الحقيقي، لو أن شخصًا ما يميز بدقة بين قهوة مختصة حقيقية، وقهوة تجارية سريعة التحضير، لا يعني أنه أمير، بل أنه مُنغمس في ترفه الخاص، البعيد عن أي منغصات.
بالرغم أن الكثير من الأبحاث أشارت بمدى اهتام الأفراد بالفن وارتباط الاستهلاك الفني في مجتمع بزيادة العدالة الاجتماعية فيه، إلا أنه يمكن تسويق الفن، بربطه بالحالة الاجتماعية، كما حدث عندما زادت مبيعات تذاكر المسرح في لندن ذات أسبوع في عام 2013، وضح بروفيسور مايك سافاج، عالم الاجتماع هذه التجربة، بتزامن هذه الزيادة مع استفتاء إلكتروني نشرته BBC يدعى بـ “حاسبة الطبقة الاجتماعية” وكان من ضمن الاستفتاء أسئلة عن مدى ارتياد الشخص للمسرح، أو معرض فني.
مؤخرًا تداعت سلطة الصُور المترفة في المجتمع، وكأن فلسفة أبيقور لم تخطيء حينما وجدت أتباعًا لها، تلك الفلسفة التي تمجد الترف والرفاهية في الظاهر، أصبحت في مجتمعنا مجرد رمزيةً مادية حبيسة صُور تداهمنا في كل زاوية في شبكات التواصل الاجتماعي، فيكفي أن تحتوي الصورة على كل مُقومّات الترف وإن اختلفت أبجدياتها بين الناس حتى تصنف تحت فكرة الرفاهية وتحظى بالإعجاب.
الكثير من الفلاسفة دافع عن فلسفة أبيقور كونها لم تحتفي بالترف المادي في جوهرها. وحين تأملي لقراءاتهم لها وجدت أنها تعكس مبدأ الHygge ذي الأصل الدنماركي، باعتبارالدول الاسكندنافية من أسعد الشعوب في الأرض، يشير هذا المبدأ أن الرفاهية التي يتبناها غالبية الأفراد بالدنمارك ماهو إلا إحساس عميق بالبهجة، والراحة من خلال عملية تجويد الحياة اليومية وذلك عبر تحسين نمط حياتهم بممارسات بسيطة مبهجة تُضيف إلى يومهم الكثير من السعادة وتصنع فارق الرفاهية. هذه الممارسات اليومية تتدرج من كونها كوب قهوة لذيذ، كنزة دافئة، أنشطة خارجية، شمعة فواحة والكثير من الحكمة ممتزجة مع البسمة. وهذا ما تتضمنه فلسفة أبيقور فعليًا بقوله” ” إلى اللذة نحتكم” أي أن تقييمنا الوحيد لأي غرض هو مقدار اللذة الذي يخلُقه. وهذا مايخلقه الفن والهواية الفنية ، حالة أشبه بجلسة يوغا علاجية مُترفة.
في كتابه Playing to the gallery يقول غريسون بيري أن الديموقراطية لها ذوق سيء، ويشرح ذلك بقوله أن أذواق الناس تتشكل بتأثير من حولنا. إن زخم المنشور في التواصل الاجتماعي يسلبنا هذا الشعور، إما شعورًا بالغبطة بعد متابعة أحد المرفهين ماديًا، أو عزلة عن ذواتنا وماتحبه بالفعل، أو حالة من الشتات والاضطراب والفوضى الداخلية. سيادة شكل وأسلوب معين ومكرر المحتوى البصري وسلطة الصور المترفة سوف يُخفض من معاييرنا الجمعية، وهو مايمكن أن يؤذي فهمنا بما يُسببه من تراكمات في اللاوعي وطريقة تلقينا لمفهوم الرفاهية و هضمنا له. عدد من الدراسات السيكولوجية وضحت أنه تقريبًا رؤية الناس لصور معينة، يعني خلق تفضيل لهذا النوع من الصور؛ لذا بهذا الهوس الصُّوري المنتشر والذي أضحى كمعرض فني مفتوح على الويب.. تتضاءل أهمية أبعاد رفاهية أخرى.